السبت، 23 يوليو 2016

فنّ التأثير على مخيلة الجماهير | بقلم: إياس بياسي

يحدثُ أن تمرَّ بمكان ما، فتشعر أنك قد مررت قبلاً من هنا، وتكاد تجزم بهذا، بما لايقبل الشكّ، أو تصادف شخصاً ما؛ فيعتريكَ نفس الشّعور الخليط ، بين التعجّب والذهول والاستفهام، وتسمى هذه الحالة علمياً (الديجافو Deja Vu)، حيث تعتقد أنّ المكان، أو الحدث الذي تعايشه حالياً، قد تكرّر سابقاً، وهو أمر يكاد يكونُ مألوفاً جداً بالنسبة لك، وفي النهاية فإن معظم الناس قد حصلت معهم هذه المواقف، وستستمرًّ بالحدوث مستقبلاً؛ فاطمئنوا ..
ويحدث أن تتابع بدقّة؛ أحداث العالم العربي، وثوراته –أو سمّها ماشئت- من بدايتها، وتقف على نافذة التطورات الآنية، وترصد كلّ تغيير وتغيُّر فيها، متمنياً وراغباً باستمرار اندلاعها، وسبر انعكاساتها، أو عكس ذلك إن أردت، ثمّ لا تُفاجأ أبداً بالنتيجة، أو أنك كنت تتوقّع؛ ماستؤول إليه الحكاية، من مبدأ خبرتك المتواضعة بعلم نفس الجماهير، وليس من مبدأ نبوغك؛ في تفكيك وتحليل نظرية المؤامرة، أو صراع الحضارات.
كنت أقفُ على هذه النافذة، وألعن في سرّي –كل يوم- جوستاف لوبون1 الذي انقرض جسده منذ عام 1931، ولم ينقرِض بعدُ فكره؛ ذاك الذي أمضى حياته بدراسة هذه الظاهرة، ظاهرة (علم نفس الجماهير) وظاهرة محرّكيها، والذي يؤكّد في أحد دراساته، أن الجماهير تتحكم فيها "العوامل الوراثية العتيقة"، حتى عند ثورانها وانتفاضاتها، ويستنتج، أنها سرعان ماتملّ من الفوضى والانفلات، الذَين تخلّفهما تلك الموجات الاحتجاجية أو الثورات، وتميل مرّة أخرى بغريزتها إلى العبودية، أو إلى من يقمعها، بحجج كثيرة مثل (الاستقرار وحماية البلد)2، ويستشهد هنا بنابليون، والتي راحت تصفق له الجماهير، عندما أخذ يلغي الحريات، ويحكم بيد من حديد، رغم أنه جاء، بعد ثورة قدمت الكثير من التضحيات.
وفي نقطة أخرى تتصل بهذا، يذكر لنا، أنه على الرغم من أن هذه الجماهير، قد ثارت لتغيير واقعها بمؤسساته، وهياكله، إلا أنها تكتفي من ذلك بتغيير الأسماء، وظواهر المؤسسات الرسمية، بينما تبقى تلك المؤسسات بعمقها ومضمونها، لتعبر عن نفسها بأنها احتياج وراثي لهذا الشعب أو هذا الجمهور3.
ربما ذلك ما يجعلنا نفسر، ميلَ بعض الشعوب، للتمسك بالمؤسسات الأمنية والعسكرية، وتفضيلها على طموحاتهم، وماقاموا لأجله، رغم ما ارتكبته من جرائم وفظائع بحقّهم؟
ألا يبدو أن بعض الشعوب مثلت هذا الدور، ومع إطالة أمد الحروب والثورات، ستمثّله شعوب أخرى؟
ألا يكفي هذا للعنِ هذا الرجل صباحاً كل يوم؟
ونعود بالحديث عن إحدى خصائص الجماهير أيضاً، والتي هي (ضعف المحاكمة العقلية) كما يقول، فهذه الأخيرة تجعلها تتأثر بالصور والخيالات، لذلك تنتشر بين الناس، القصص والأساطير، المحمّلة بالعواطف والخيال، الأمر الذي يجعلها لاتميز بين الواقعي، واللاواقعي، مايسهم في تحريك مخيلتها، وتجييشها نحو أفكار كبرى وعميقة 4.
ويخلص لوبون بعد عرض مفاتيح علم نفس الجماهير–وهذا هو الأهم- إلى أنَّ: (معرفة فنّ التأثير على مخيلة الجماهير، تعني معرفة فنّ حُكمها).
ويَذكر التاريخ، أنّ الدعاية النازية أيام أدولف هتلر، وعرّاب حكمه الكبير، وزير دعايته بول جوبلز؛ قد استعانت كثيراً بأفكار لوبون، حيث كان هذا العبقريّ (جوبلز)، والذي أوكل الفوهرر إليه، مهمّة تحطيم الخصم بالدعاية، يَستحضِرُ فحوى دراسات لوبون، ويحوّل نتائجها إلى بروباجاندا، يستخدمها ضد أعدائه، أكثر مما يستخدم السلاح، ويقال أنه هو القائل: (أعطني إعلاماً كاذباً –أو بلاضمير- أعطِك شعباً بلا وعي)، فدراسة نفسيّة الشعوب، وطريقة تحريكها، قد بدا لجوبلز، أنها الوسيلة الأنجع، والأقوى، بدلاً من ضخ الأموال وصرفها على الجند، والأسلحة وصناعتها.
وقبل أن ندخل في خصائص أخرى عديدة، تحتاج للمزيد من الإيضاح، والمزيد من الإضاءة على الخلفيات التاريخية المُعتمة، لنبدأ بنهاية الفكرة:
أشعر أني مررتُ بهذا المكان، وأن هذا الحدث، قد تكرّر سابقاً.

1: جوستاف لوبون: طبيب ومؤرخ فرنسي، اشتهر جداً بكتابه (سيكولوجية الجماهير).
2: الحالة المصرية مثلاً، وحتى الشعوب التي لم تخض غمار هذه الهزات السياسية، خافت من نتائجها قبل فوات الأوان.
3: السمات "القطعانية" للتجمعات البشرية، عند الإحساس بالخوف الشديد، أو الملمّات والكوارث الطبيعية ، فإنها تبدأ بالانكماش، وإحاطة نفسها بنفسها، لدرء الخطر الخارجي.
4: انتشرت في أحد سنيّ الحرب في سوريا، قصص مفادها، أن الملائكة بلباس أبيض وخيول بيضاء، تحارب في صف المجاهدين، ولقت القصة انتشاراً كبيراً بين الناس، وتأييداً واسعاً، بعد أن أذيع إلى جانب القصّة، أن هناك من شاهدهم حقّاً، وأقسمَ على ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.